فصل: فَصْلٌ: (شَهادةُ الْعَدْلَيْنِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.فَصْلٌ: [مَنْ شَهِدَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ]:

(وَمَنْ شَهِدَ بِعَقْدِ) نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (اُعْتُبِرَ) لِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ بِهِ (ذِكْرُ شُرُوطِهِ) لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ صِحَّةَ مَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْقَاضِي. (فَيُعْتَبَرُ فِي نِكَاحٍ) شَهِدَا بِهِ (أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً، وَذِكْرُ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ كَوُقُوعِهِ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَخُلُوِّ مَوَانِعَ مَا لَمْ يَتَّحِدْ مَذْهَبُ شَاهِدٍ وَحَاكِمٍ بَحَثَهُ بَعْضُهُمْ) وَهُوَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَيُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةٍ (بِرَضَاعٍ) ذِكْرُ شَاهِدٍ عَدْلٍ بِهِ (عَدَدَ الرَّضَعَاتِ وَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ ثَدْيِهَا أَوْ مِنْ لَبَنٍ حُلِبَ مِنْهُ) لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ وَفِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ ارْتَضَعَ (فِي الْحَوْلَيْنِ) لِأَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَهُمَا غَيْرُ مُحَرِّمٍ (فَلَا يَكْفِي هُوَ ابْنُهَا مِنْ الرَّضَاعِ) لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ ابْنَهَا.
(وَ) يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةٍ بِقَتْلٍ (ذِكْرُ قَاتِلٍ، وَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ) فَقَتَلَهُ (أَوْ جَرَحَهُ فَقَتَلَهُ، أَوْ) يَشْهَدُ أَنَّهُ (مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ، وَلَا يَكْفِي) أَنْ يَشْهَدَ (أَنَّهُ جَرَحَهُ فَمَاتَ) مِنْ جُرْحِهِ، جَوَازَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ جُرْحِهِ. وَيُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةٍ بِزِنًا (ذِكْرُ زَانٍ وَمَزْنِيٍّ بِهَا وَأَيْنَ)؛ أَيْ: فِي أَيِّ مَكَان (وَكَيْفَ) زَنَى بِهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ بِزِنًا غَيْرِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا تَلَفُّقَ (وَأَنَّهُ رَأَى ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا) لِئَلَّا يَعْتَقِدَ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًا زِنًا، وَيُقَالُ وَزَنَتْ الْعَيْنُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَ) يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةٍ (بِسَرِقَةٍ ذِكْرُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ وَذِكْرُ نِصَابٍ وَصِفَتِهَا) أَيْ: السَّرِقَةِ كَقَوْلِهِ خَلَعَ الْبَابَ لَيْلًا، وَأَخَذَ الْفَرَسَ، وَأَزَالَ رَأْسَهُ عَنْ رِدَائِهِ وَهُوَ نَائِمٌ بِمَحَلِّ كَذَا. وَأَخَذَهُ وَنَحْوَهُ؛ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ السَّرِقَةِ.
(وَ) يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةٍ (بِقَذْفٍ ذِكْرُ مَقْذُوفٍ) لِيُعْلَمَ هَلْ يَجِبُ بِقَذْفِهِ الْحَدُّ أَوْ التَّعْزِيرُ، وَذِكْرُ (صِفَةِ قَذْفٍ) كَقَوْلِهِ لَهُ: يَا زَانِي أَوْ يَا عَاهِرُ وَنَحْوِهِ لِيُعْلَمَ هَلْ الصِّيغَةُ صَرِيحٌ فِيهِ أَوْ كِنَايَةٌ.
(وَ) يُعْتَبَرُ فِي شَهَادَةٍ بِإِكْرَاهٍ عَلَى فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يُؤَاخَذُ بِهِ لَوْ كَانَ طَائِعًا، ذِكْرُ (أَنَّهُ ضَرَبَهُ أَوْ هَدَّدَهُ) عَلَيْهِ (وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ) الَّذِي هَدَّدَهُ (بِهِ). (وَإِنْ شَهِدَ أَنْ هَذَا ابْنُ أَمَتِهِ أَوْ ثَمَرُ شَجَرَتِهِ) لَمْ يُحْكَمْ لِلْمَشْهُودِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا (حَتَّى يَقُولَ وَلَدَتْهُ) أَمَتُهُ (أَوْ أَثْمَرَتْهُ) شَجَرَتُهُ (بِمِلْكِهِ) فَإِذَا قَالَا ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَهُوَ لَهُ، مَا لَمْ يَرِدْ سَبَبٌ بِنَقْلِهِ عَنْهُ، وَلِشَهَادَتِهِمَا بِسَبَبِ مِلْكِهِ لَهُ، وَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَا أَقْرَضَهُ أَلْفًا أَوْ بَاعَهُ سُلْفَةً، وَبِخِلَافِ كَانَ مِلْكَهُ أَمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَإِنْ شَهِدَا أَنْ هَذَا الْغَزْلَ مِنْ قُطْنِهِ) أَوْ شَهِدَا (أَنْ الدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَتِهِ) أَوْ شَهِدَا أَنْ هَذَا (الطَّيْرَ مِنْ بَيْضَتِهِ، حُكِمَ لَهُ بِهِ) لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْغَزْلُ أَوْ الدَّقِيقُ أَوْ الطَّيْرُ مِنْ قُطْنِهِ أَوْ حِنْطَتِهِ أَوْ بَيْضِهِ قَبْلَ مِلْكِهِ لِلْقُطْنِ أَوْ الْبَيْضَةِ، وَلِأَنَّ الْغَزْلَ هُوَ الْقُطْنُ لَكِنْ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، وَكَذَا الدَّقِيقُ وَالطَّيْرُ فَكَأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَالَتْ هَذَا غَزْلُهُ وَدَقِيقُهُ وَطَيْرُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَلَدُ وَالثَّمَرَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأُمِّ وَالشَّجَرَةِ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْبَيْضَةِ (إنْ شَهِدَا أَنَّ هَذِهِ الْبَيْضَةَ مِنْ طَيْرِهِ) حَتَّى يَشْهَدَا أَنَّهَا بَاضَتْهَا فِي مِلْكِهِ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الطَّيْرَةُ بَاضَتْهَا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا. أَوْ شَهِدَا (أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا) الْعَبْدَ أَوْ الثَّوْبَ وَنَحْوَهُ (مِنْ زَيْدٍ) حَتَّى يَقُولَا وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ شَهِدَا أَنَّ زَيْدًا (وَقَفَهُ) أَيْ الْعَبْدَ وَنَحْوَهُ (عَلَيْهِ) أَوْ شَهِدَ أَنَّ زَيْدًا (أَعْتَقَهُ) أَيْ: الْقِنَّ لَمْ يُحْكَمْ بِذَلِكَ (حَتَّى يَقُولَا) أَيْ: الشَّاهِدَانِ بَاعَ ذَلِكَ أَوْ أَوْقَفَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ (وَهُوَ فِي مِلْكِهِ) لِجَوَازِ بَيْعِهِ أَوْ وَقْفِهِ أَوْ عِتْقِهِ مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ انْتِزَاعَ شَيْءٍ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ شَخْصٍ، وَيَبِيعَهُ إيَّاهُ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ يَنْتَزِعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ يَدِ رَبِّهِ، وَيُقَاسِمَ بَائِعَهُ فِيهِ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ. (وَمَنْ ادَّعَى إرْثَ مَيِّتٍ فَشَهِدَا)؛ أَيْ: الشَّاهِدَانِ (أَنَّهُ وَارِثٌ لَا يَعْلَمَانِ) وَارِثًا غَيْرَهُ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ لَا، سُلِّمَ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، فَكَفَى فِيهِ الظَّاهِرُ (أَوْ قَالَا) لَا نَعْلَمُ وَارِثًا غَيْرَهُ (فِي هَذَا الْبَلَدِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَلَدِ، وَقَدْ نَفَيَا الْعِلْمَ بِهِ فِي هَذَا الْبَلَدِ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْمُطْلَقِ (سَوَاءٌ كَانَا) أَيْ: الشَّاهِدَانِ (مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ لَا، سُلِّمَ إلَيْهِ إرْثٌ بِغَيْرِ كَفِيلٍ) لِثُبُوتِ أَنَّهُ لَهُ، الْأَصْلُ الشَّرِيكِ، وَيُسَلَّمُ إلَيْهِ الْإِرْثُ (بِهِ) أَيْ: كَفِيلٍ (إنْ شَهِدَ بِإِرْثِهِ) أَيْ: بِأَنَّهُ وَارِثُهُ (فَقَطْ) بِأَنْ لَمْ يَقُولَا، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ (ثُمَّ إنْ شَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَارِثٌ شَارَكَ) الْأَوَّلَ فِي إرْثِ الْمَيِّتِ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي فَتَاوِيهِ: إنَّمَا احْتَاجَ إلَى بَيَانِ لَا وَارِثَ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ يُعْلَمُ ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ يَعْرِفُهُ جَارُهُ، وَمَنْ يَعْلَمُ بَاطِنَ أَمْرِهِ، بِخِلَافِ دَيْنِهِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ سِوَاهُ، لِخَفَاءِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ جِهَاتِ الْإِرْثِ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا عَنْ يَقِينٍ. (وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ عَلَى نَفْيِ مَحْصُورٍ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) وَمَسْأَلَةِ (الْإِعْسَارِ) وَالْبَيِّنَةُ فِيهِ ثَبَتَ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ وَيُشَاهَدُ، بِخِلَافِ شَهَادَتِهِمَا لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: «دُعِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ».
قَالَ الْقَاضِي فِي نَحْوِ هَذَا، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّرْكِ وَالْعِلْمَ بِالْفِعْلِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِهَذَا نَقُولُ: إنَّ مَنْ قَالَ صَحِبْت فُلَانًا فِي يَوْمِ كَذَا، فَلَمْ يَقْذِفْ فُلَانًا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَمَا تُقْبَلُ فِي الْإِثْبَاتِ. (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ ابْنُهُ)؛ أَيْ: الْمَيِّتِ (لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنْ هَذَا ابْنُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، قُسِّمَ الْإِرْثُ بَيْنَهُمَا) وَلَا تَعَارُضَ، لِجَوَازِ أَنْ تُعْلِمَ كُلُّ بَيِّنَةٍ مَا لَمْ تُعْلِمْهُ الْأُخْرَى.

.فَصْلٌ: [شَهادةُ الْعَدْلَيْنِ]:

(إنْ شَهِدَا أَيْ: الْعَدْلَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ) مِنْ نِسَائِهِ وَاحِدَةً وَنَسِيَ عَيْنَهَا، أَوْ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ (أَوْ أَنَّهُ أَبْطَلَ مِنْ وَصَايَاهُ وَاحِدَةً وَنَسِيَا عَيْنَهَا، لَمْ تُقْبَلْ) شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهَا بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا، كَقَوْلِهِمَا إحْدَى هَاتَيْنِ الْأَمَتَيْنِ عَتِيقَةٌ. (وَيَتَّجِهُ لَوْ قَالَ) لِزَوْجَتَيْهِ (إحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَوْ) قَالَ لِرَقِيقِهِ أَحَدُكُمَا (حُرٌّ فَشَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، تُقْبَلُ) شَهَادَتُهُمَا (وَيُقْرَعُ) بَيْنَهُمَا، وَهُوَ اتِّجَاهٌ جَيِّدٌ مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ. (وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا) أَيْ: الْعَدْلَيْنِ عَلَى زَيْدٍ (بِغَصْبِ ثَوْبٍ أَحْمَرَ، وَ) شَهِدَ (الْآخَرُ بِغَصْبِ) ثَوْبٍ (أَبْيَضَ أَوْ) شَهِدَ (أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ) الثَّوْبَ (الْيَوْمَ وَ) شَهِدَ (الْآخَرُ أَنَّهُ) غَصَبَهُ (أَمْسِ، لَمْ تَكْمُلْ) الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا ذُكِرَ يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ (وَكَذَا كُلُّ شَهَادَةٍ عَلَى فِعْلٍ مُتَّحِدٍ فِي نَفْسِهِ كَقَتْلِ زَيْدٍ وَإِتْلَافِ ثَوْبِهِ) إذْ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ عَلَى فِعْلٍ مُتَّحِدٍ (بِاتِّفَاقِهِمَا) أَيْ: الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَالْغَصْبِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَ(كَسَرِقَةٍ) وَنَحْوِهَا (إذَا اخْتَلَفَا)؛ أَيْ: الشَّاهِدَانِ (فِي وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ مَكَانِهِ أَوْ صِفَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِهِ)؛ أَيْ: الْمَشْهُودِ بِهِ (كَلَوْنِهِ وَآلَةِ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ) فَلَا تَكْمُلُ الْبَيِّنَةُ؛ لِلتَّنَافِي، وَكُلٌّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ يُكَذِّبُ الْآخَرَ؛ فَيَتَعَارَضَانِ، وَيَسْقُطَانِ. (وَإِنْ أَمْكَنَ تَعَدُّدُهُ)؛ أَيْ: الْفِعْلِ (وَلَمْ يَشْهَدَا بِأَنَّهُ)؛ أَيْ: الْفِعْلَ (مُتَّحِدٌ) وَلَمْ يَقُلْ الْمَشْهُودُ لَهُ إنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ (فَبِكُلِّ شَيْءٍ شَاهِدٌ، فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ) فَإِنْ ادَّعَى الْفِعْلَيْنِ، وَأَقَامَ أَيْضًا بِكُلٍّ مِنْهُمَا شَاهِدًا أَوْ حَلَفَ مَعَ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ يَمِينًا؛ ثَبَتَا، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ بِذَلِكَ؛ لِتَغَايُرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (وَلَوْ كَانَ بَدَلَهُ)؛ أَيْ: كُلِّ شَاهِدٍ مِنْهُمَا (بَيِّنَةٌ) تَامَّةٌ (ثَبَتَ مُوجِبُهُمَا إنْ ادَّعَى) الْمَشْهُودُ لَهُ (الْفِعْلَيْنِ) الْمَشْهُودَ بِهِمَا الْمُدَّعَى بِهِمَا قَبْلَ أَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَاتِ (وَإِلَّا) بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا فَقَطْ ثَبَتَ (مَا ادَّعَاهُ) دُونَ الْآخَرِ (وَتَسَاقَطَتَا فِي) مَسْأَلَةِ (الِاتِّحَادِ)؛ أَيْ: اتِّحَادِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِاتِّفَاقِهِمَا (وَكَفِعْلٍ مِنْ قَوْلِ نِكَاحٍ وَقَذْفٍ فَقَطْ)؛ أَيْ: دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَقْوَالِ؛ فَإِذَا شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَوْ قَذَفَهُ أَمْسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ الْيَوْمَ؛ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالْقَذْفَ الْوَاقِعَيْنِ أَمْسِ غَيْرُ الْوَاقِعَيْنِ الْيَوْمَ؛ فَلَمْ يَبْقَ بِكُلِّ نِكَاحٍ أَوْ قَذْفٍ إلَّا شَاهِدٌ؛ فَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ، وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّكَاحِ فِي حُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ لَمْ يَتَحَقَّقْ حُصُولُهُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ غُدْوَةً أَوْ خَارِجَ الْبَلَدِ أَوْ بِالْعُجْمِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِهَا. (وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى إقْرَارٍ بِفِعْلٍ) كَغَصْبٍ وَقَتْلٍ وَسَرِقَةٍ (أَوْ غَيْرِهِ) كَإِقْرَارِ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ (وَلَوْ) كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ (نِكَاحًا أَوْ قَذْفًا) كَأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوْ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ غَصَبَهُ أَوْ قَذَفَهُ أَوْ بَاعَهُ كَذَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ بِمِصْرَ وَنَحْوِهِ، جُمِعَتْ وَعُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ وَاحِدٌ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ عَلَى الْفِعْلِ؛ فَإِنَّهَا عَلَى فِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا هَاهُنَا (أَوْ شَهِدَ) شَاهِدٌ (وَاحِدٌ بِالْفِعْلِ) وَشَهِدَ شَاهِدٌ (آخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ) بِذَلِكَ الْفِعْلِ (جُمِعَتْ) وَحُكِمَ بِهَا (لِعَدَمِ التَّنَافِي). وَلَا تَكْمُلُ الْبَيِّنَةُ (إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِفِعْلِ نِكَاحٍ أَوْ قَتْلٍ خَطَأٍ، وَ) شَهِدَ (آخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ) بِذَلِكَ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ، وَلِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ فِي الْقَتْلِ (وَلِمُدَّعِي الْقَتْلِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا)؛ أَيْ: الشَّاهِدَيْنِ (وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ) لِثُبُوتِ الْقَتْلِ، وَمَتَى حَلَفَ (مَعَ شَاهِدِ الْإِقْرَارِ) بِالْقَتْلِ، فَالدِّيَةُ (فِي مَالِ الْقَاتِلِ) لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا، وَالْقَتْلُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ. (وَلَوْ شَهِدَا بِالْقَتْلِ) أَوْ شَهِدَا (بِالْإِقْرَارِ بِهِ)؛ أَيْ: الْقَتْلِ (وَزَادَ أَحَدُهُمَا) فِي شَهَادَتِهِ كَوْنَ الْقَتْلِ (عَمْدًا) وَلَمْ يَذْكُرْ رَفِيقُهُ كَوْنَهُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً ثَبَتَ الْقَتْلُ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ (وَصُدِّقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلُ فِي صِفَتِهِ مِنْ خَطَأٍ) أَوْ عَمْدٍ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَيْهَا. (وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ قَوِيٍّ وَالدِّيَةُ) تَلْزَمُ الْمُدَّعَى (عَلَيْهِ) بِتَصْدِيقِهِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى وُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ أَثَرُ فِعْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِضَرَرِهَا، وَتَكُونُ حَالُهُ كَدِيَةِ الْعَمْدِ، وَلَا يَجِبُ مِنْهَا بِشَيْءٍ عَلَى (الْعَاقِلَةِ)؛ أَيْ: عَاقِلَةِ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْجِنَايَةِ خَطَأً وَلَا شِبْهَ عَمْدٍ، وَتَصْدِيقُنَا إيَّاهُ فِي كَوْنِ الْجِنَايَةِ لَيْسَتْ عَمْدًا أَفَادَهُ دَرْءُ الْحَدِّ عَنْهُ فَقَطْ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي مَالِهِ، لِئَلَّا يَضِيعَ دَمُ الْمَعْصُومِ هَدَرًا وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَمَتَى جَمَعْنَا) شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ (مَعَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ) فِي وَقْتٍ، وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ (فِي قَتْلٍ أَوْ طَلَاقٍ، كَأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ وَاحِدٍ أَنَّهُ قَتَلَ) مَعْصُومًا (أَوْ طَلَّقَ) زَوْجَتَهُ (بِرَجَبٍ، وَأَقَرَّ عِنْدَ آخَرَ) أَنَّهُ قَتَلَ أَوْ طَلَّقَ (بِشَعْبَانَ؛ فَالْإِرْثُ وَالْعِدَّةُ يَلِيَانِ آخِرَ الْمُدَّتَيْنِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالزَّوْجِيَّةِ إلَى آخِرِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ شَعْبَانُ فِي مِثَالِنَا. (وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ)؛ أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (أَقَرَّ لَهُ) أَيْ: لِلْمُدَّعِي (بِأَلْفٍ أَمْسِ، وَ) شَهِدَ (الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهِ) أَيْ: الْأَلْفِ (الْيَوْمَ) كَمَلَتْ (أَوْ) شَهِدَ (أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ دَارِهِ أَمْسِ وَ) شَهِدَ (الْآخَرُ أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهَا الْيَوْمَ) (كَمَلَتْ) الْبَيِّنَةُ؛ وَثَبَتَ الْإِقْرَارُ أَوْ الْبَيْعُ، لِاتِّحَادِ الْأَلْفِ وَالْبَيْعِ الْمَشْهُودِ بِهِمَا، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ الْيَوْمَ، إذْ الْمَشْهُودُ بِهِ وَاحِدٌ يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَوْ بَاعَ أَوْ طَلَّقَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَوْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ بِالْفَارِسِيَّةِ (وَكَذَا كُلُّ شَهَادَةٍ عَلَى قَوْلٍ غَيْرِ نِكَاحٍ وَقَذْفٍ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفَيْنِ) كَمَلَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ، (أَوْ) شَهِدَ (أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ، كَمَلَتْ) الْبَيِّنَةُ (بِأَلْفٍ) وَاحِدٍ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ (وَلَهُ)، أَيْ: الْمَشْهُودِ لَهُ (أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْأَلْفِ الْآخَرِ مَعَ شَاهِدِهِ) وَيَسْتَحِقَّهُ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفْ السَّبَبُ وَلَا الصِّفَةُ كَمَا يَأْتِي. (وَلَوْ شَهِدَ) الشَّخْصُ (بِمِائَةٍ، وَ) شَهِدَ (آخَرُ أَنَّ لَهُ بِعَدَدٍ أَقَلَّ) مِنْ الْمِائَةِ؛ دَخَلَ الْأَقَلُّ مِنْ الْمِائَةِ فِيهَا (إلَّا مَعَ مَا)؛ أَيْ: شَيْءٍ (يَقْتَضِي التَّعَدُّدَ) كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِمِائَةٍ قَرْضًا. وَآخَرَانِ بِخَمْسِينَ ثَمَنَ مَبِيعٍ (فَيَلْزَمَانِهِ) لِاخْتِلَافِ سَبَبِهِمَا. (وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَلْفٍ) وَأَطْلَقَ، وَشَهِدَ آخَرُ (بِأَلْفٍ مِنْ قَرْضٍ؛ كَمَلَتْ) شَهَادَتُهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا تَكْمُلُ (إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَلْفٍ مِنْ قَرْضٍ، وَشَهِدَ آخَرُ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ) لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِمَشْهُودٍ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَسْتَحِقَّهُمَا أَوْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَيَسْتَحِقَّ مَا شَهِدَ بِهِ. (وَإِنْ شَهِدَا أَنْ عَلَيْهِ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا لِلْمُدَّعِي (وَقَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ بَعْضَهُ؛ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ نَصًّا) لِأَنَّ قَوْلَهُ قَضَاهُ بَعْضَهُ يُنَاقِضُ شَهَادَتَهُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ، فَأَفْسَدَهَا، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الْآخَرِ، وَيَسْتَحِقَّ الْأَلْفَ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ. (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: قَضَاهُ نِصْفَهُ، صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا) بِالْأَلْفِ، لِأَنَّ الْوَفَاءَ لَا يُنَافِي الْقَرْضَ، فَيَحْتَاجُ إثْبَاتُ قَضَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَى شَاهِدٍ آخَرَ أَوْ يَمِينٍ. (وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ) تَحَمَّلَ شَهَادَةً بِحَقٍّ، وَ(أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِاقْتِضَاءِ الْحَقِّ أَوْ انْتِقَالِهِ) بِنَحْوِ حَوَالَةٍ (أَنْ يَشْهَدَ بِهِ) أَيْ: الْحَقِّ الَّذِي تَحَمَّلَهُ نَصًّا، وَلَوْ قَضَاهُ نِصْفَهُ ثُمَّ جَحَدَ بَقِيَّتَهُ قَالَ: أَحْمَدُ يَدَّعِيهِ كُلَّهُ، وَتَقُومُ الْبَيِّنَةُ فَشَهِدَ عَلَى حَقِّهِ كُلِّهِ ثُمَّ يَقُولُ لِلْحَاكِمِ: قَضَانِي نِصْفَهُ. (وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ نَحْوِ صَغِيرٍ أَلْفًا) مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَنَحْوِهَا (وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى شَخْصٍ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الصَّغِيرِ أَلْفًا) مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ (لَزِمَ وَلِيَّهُ)، أَيْ: الصَّغِيرِ (مُطَالَبَتُهُمَا)، أَيْ: الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا (بِأَلْفَيْنِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأَلْفَ الَّذِي أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الَّذِي أَخَذَهُ الْآخَرُ (إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى أَلْفٍ بِعَيْنِهَا) أَيْ: بِأَنَّ الْأَلْفَ الَّذِي أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ الْآخَرُ (فَيَطْلُبُهَا) الْوَلِيُّ (مِنْ أَيِّهِمَا) أَيْ: الْآخِذَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا. (وَمَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَلْفٍ فَقَالَ لَهُمَا: أُرِيدُ أَنْ تَشْهَدَا لِي بِخَمْسِمِائَةٍ، لَمْ يَجُزْ) لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَ بِالْخَمْسِمِائَةِ لَهُ (وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ لَمْ يُوَلِّ الْحُكْمَ فَوْقَهَا) أَيْ: الْخَمْسِمِائَةِ نَصًّا لِأَنَّ عَلَى الشَّاهِدِ نَقْلَ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا شَهِدَ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}. وَلِأَنَّهُ لَوْ سَاغَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِبَعْضِ مَا شَهِدَ، لَسَاغَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِبَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ. (وَإِنْ قَضَاهُ نِصْفَ الدَّيْنِ، وَجَحَدَ الْبَاقِيَ ادَّعَى بِالْكُلِّ) نَصًّا (وَتَشْهَدُ بِهِ)؛ أَيْ: بِالْكُلِّ (الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ يَقُولُ: لِلْحَاكِمِ قَضَانِي نِصْفَهُ) نَقَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ. (وَلَوْ) (شَهِدَ اثْنَانِ فِي مَحْفِلٍ)؛ أَيْ: مُجْتَمَعٍ (عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ عَلَى خَطِيبٍ أَنَّهُ قَالَ أَوْ فَعَلَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْخُطْبَةِ شَيْئًا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ غَيْرُهُمَا مَعَ الْمُشَارَكَةِ فِي سَمْعٍ وَبَصَرٍ) (قُبِلَا) لِكَمَالِ النِّصَابِ (وَلَا يُعَارِضُهُ)؛ أَيْ: قَبُولَهُمَا (قَوْلُ الْأَصْحَابِ إذَا انْفَرَدَ) شَاهِدٌ (وَاحِدٌ فِيمَا)؛ أَيْ: نَقْلِ شَيْءٍ (تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ)؛ أَيْ: تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِهِ (مَعَ مُشَارَكَةِ خَلْقٍ كَثِيرِينَ لَهُ؛ رُدَّ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ) وَلِأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ، وَبَيْنَ تَقْيِيدِهِمْ بِكَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَبَيْنَ عَدَمِ ذَلِكَ الْقَيْدِ.

.بَابُ شُرُوطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ:

وَالْحِكْمَةُ فِي اعْتِبَارِهَا حِفْظُ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَنْفُسِ أَنْ تَنَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَاعْتُبِرَتْ أَحْوَالُ الشُّهُودِ بِخُلُوِّهِمْ عَمَّا يُوجِبُ التُّهْمَةَ فِيهِمْ، وَوُجُودُ مَا يُوجِبُ تَيَقُّظَهُمْ وَتَحَرُّزَهُمْ (وَهِيَ)؛ أَيْ: شُرُوطُهُ (سِتَّةٌ) بِالِاسْتِقْرَاءِ. (أَحَدُهَا الْبُلُوغُ فَلَا تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (مِنْ صَغِيرٍ) ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَوْ كَانَ الصَّغِيرُ (فِي حَالِ أَهْلِ الْعَدَالَةِ) بِأَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ الْمُكَلَّفُ الْعَدْلُ (مُطْلَقًا)؛ أَيْ: سَوَاءٌ شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ فِي جِرَاحٍ إذَا شَهِدُوا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي تَجَارَحُوا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}. وَالصَّبِيُّ لَيْسَ رَجُلًا، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ كَامِلِ الْعَقْلِ. (الثَّانِي الْعَقْلُ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ)؛ أَيْ: غَرِيزَةٌ يَنْشَأُ عَنْهَا ذَلِكَ يَسْتَعِدُّ بِهَا لِفَهْمِ دَقِيقِ الْعُلُومِ، وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ وُرُودُ الشَّكِّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ نَوْعٌ مِنْهَا لَا جَمِيعَهَا، وَإِلَّا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرَكَاتِ لِعَدَمِ إدْرَاكِهَا غَيْرَ عَاقِلٍ (وَالْعَاقِلُ مَنْ عَرَفَ الْوَاجِبَ عَقْلًا الضَّرُورِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَرَفَ الْمُمْكِنَ وَالْمُمْتَنِعَ) كَوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى، وَكَوْنِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ لَيْسَ فِي مَكَانَيْنِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. (وَيَتَّجِهُ الْمُرَادُ) مِنْ قَوْلِهِمْ وَالْعَاقِلُ مَنْ عَرَفَ إلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ (وَقَابِلِيَّةٌ لِذَلِكَ لَوْ تَأَمَّلَهُ) كَمُعْظَمِ أَهْلِ زَمَانِنَا مِمَّنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الطَّبِيعَةُ الْبَهِيمِيَّةُ، يَنْعَقُونَ مَعَ كُلِّ نَاعِقٍ مَعَ أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْمَهَارَةِ فِي إصْلَاحِ أَمْرِ مَعَاشِهِمْ وَفِي نِهَايَةِ الْغَفْلَةِ عَنْ التَّأَمُّلِ فِي أَمْرِ مَعَادِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُتَّصِفًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ؛ إذْ لَوْ تَأَمَّلَ لَحَصَلَ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ وَعَرَفَ (مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ غَالِبًا) لِأَنَّ النَّاسَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ (فَلَا تُقْبَلُ) شَهَادَةٌ (مِنْ مَعْتُوهٍ وَلَا مِنْ مَجْنُونٍ) مَسْلُوبِ الْعَقْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَلَا أَدَاؤُهَا، لِاحْتِيَاجِهَا إلَى الضَّبْطِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُهُ (إلَّا مَنْ يَخْنُقُ أَحْيَانًا إذَا شَهِدَ) أَيْ: تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَأَدَّاهَا (فِي إفَاقَتِهِ) فَتُقْبَلُ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ عَاقِلٍ، أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يُجَنَّ. (الثَّالِثُ النُّطْقُ)؛ أَيْ: كَوْنَ الشَّاهِدِ مُتَكَلِّمًا (فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ مِنْ أَخْرَسَ) بِإِشَارَتِهِ كَإِشَارَةِ النَّاطِقِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ فِي أَحْكَامِهِ كَنِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ لِلضَّرُورَةِ (إلَّا إذَا أَدَّاهَا) الْأَخْرَسُ (بِخَطِّهِ) فَتُقْبَلُ لِدَلَالَةِ الْخَطِّ عَلَى الْأَلْفَاظِ. (الرَّابِعُ الْحِفْظُ، فَلَا تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (مِنْ مُغَفَّلٍ وَ) لَا مِنْ (مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ غَلَطٍ وَكَثِيرِ سَهْوٍ) لِأَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَلَطِهِ، وَتُقْبَلُ مِمَّنْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْغَلَطُ وَالسَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ. (الْخَامِسُ الْإِسْلَامُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ رِجَالِنَا وَغَيْرُ مَأْمُونٍ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» رَوَاه ابْنُ مَاجَهْ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ. وَإِنْ سَلَّمَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى شَهَادَةً قَالَ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} (فَلَا تُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ، وَلَوْ عَلَى) كَافِرٍ (مِثْلَهُ غَيْرَ رَجُلَيْنِ) لَا نِسَاءً (كِتَابَيْنِ) لَا مَجُوسِيَّيْنِ وَنَحْوَهُمَا (عِنْدَ عَدَمِ مُسْلِمٍ) لَا مَعَ وُجُودِهِ (بِوَصِيَّةِ) مَيِّتٍ (مُسْلِمٍ) أَوْ كَافِرٍ أَوْقَعَ الْوَصِيَّةَ (سَفَرًا، وَيُحَلِّفُهُمَا)؛ أَيْ: الشَّاهِدَيْنِ الْكِتَابِيَّيْنِ (حَاكِمٌ وُجُوبًا بَعْدَ الْعَصْرِ) لِخَبَرِ أَبِي مُوسَى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْأَدْيَانِ، فَيَحْلِفَانِ مَعَ رَيْبٍ (لَا نَشْتَرِي بِهِ)؛ أَيْ: اللَّهَ تَعَالَى أَوْ الْحَلِفَ أَوْ تَحْرِيفَ الشَّهَادَةِ أَوْ الشَّهَادَةَ (ثَمَنًا، وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبِي، وَمَا خَانَا وَلَا حَرَّفَا، وَإِنَّهَا لِوَصِيَّةِ) الرَّجُلِ الْمَيِّتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الْآيَةَ وَقَضَى بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهَذَا قَالَ أَكَابِرُ الْمَاضِينَ (فَإِنْ عُثِرَ)؛ أَيْ: اطَّلَعَ (عَلَى أَنَّهُمَا)، أَيْ: الشَّاهِدَيْنِ الْكِتَابِيَّيْنِ (اسْتَحَقَّا إثْمًا)؛ أَيْ: كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا (قَامَ آخَرَانِ)؛ أَيْ: وَرَثَتُهُ؛ أَيْ: رَجُلَانِ (مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي) (فَحَلَفَا بِاَللَّهِ تَعَالَى لَشَهَادَتِنَا)؛ أَيْ: يَمِينُنَا (أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَلَقَدْ خَانَا وَكَتَمَا وَيَقْضِي لَهُمْ) لِلْآيَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامَ فِضَّةٍ مَخُوصًا بِذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الْآيَةَ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَضَى بِذَلِكَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ أَيْضًا فَالْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ. (السَّادِسُ الْعَدَالَةُ) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَهِيَ)؛ أَيْ: الْعَدَالَةُ (لُغَةً التَّوَسُّطُ) وَالِاسْتِقَامَةُ وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، مَأْخُوذَةً مِنْ عَدُلَ- بِضَمِّ الدَّالِ- إذْ الْعَدْلُ ضِدُّ الْجَوْرِ- أَيْ: الْمَيْلُ- لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْقَانِعُ الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيْتِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ أَنْ يَتَحَامَلَ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. (وَشَرْعًا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُهُمَا مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ وَيُعْتَبَرُ لَهَا) أَيْ: الْعَدَالَةِ (شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا)؛ أَيْ: سُنَنِ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ. نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ الْوِتْرُ سُنَّةٌ سَنَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ تَرَكَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ، فَهُوَ رَجُلُ سُوءٍ (فَلَا تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (مِمَّنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِهَا)؛ أَيْ: الرَّوَاتِبِ، فَإِنَّ تَهَاوُنَهُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُحَافَظَتِهِ عَلَى أَسْبَابِ دِينِهِ، وَرُبَّمَا جَرَى التَّهَاوُنُ بِهَا إلَى التَّهَاوُنِ بِالْفَرَائِضِ وَتُقْبَلُ مِمَّنْ تَرَكَهَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي (اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ بِأَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلَا يُدْمِنَ)؛ أَيْ: يُدَاوِمَ (عَلَى صَغِيرَةٍ) لِأَنَّ اعْتِبَارَ اجْتِنَابِ كُلِّ الْمَحَارِمِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ذَنْبٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ}. مَدَحَهُمْ لِاجْتِنَابِهِمْ مَا ذَكَرَ وَإِنْ وُجِدَتْ مِنْهُمْ الصَّغِيرَةُ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا، وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا»؛ أَيْ: لَمْ يُلِمَّ. وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ، وَقِيسَ عَلَيْهِ كُلُّ مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ كَبِيرَةً، وَأَدْمَنَ عَلَى الصَّغِيرَةِ لَا يُعَدُّ مُجْتَنِبًا لِلْمَحَارِمِ، وَقَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ الْعَدْلُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَطَائِفَةٍ بِحَسْبِهَا، فَيَكُونُ الشَّهِيدُ فِي كُلِّ قَوْمٍ مَنْ كَانَ ذَا عَدْلٍ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ قَوْمٍ لَكَانَ عَدْلُهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَبِهَذَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِلَّا فَلَوْ اُعْتُبِرَ فِي شُهُودِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ إلَّا مَنْ يَكُونُ قَائِمًا بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ؛ لَبَطَلَتْ الشَّهَادَاتُ كُلُّهَا أَوْ غَالِبُهَا. (وَالْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ) كَأَكْلِ الرِّبَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَفِي مُعْتَمَدِ الْقَاضِي مَعْنَى الْكَبِيرَةِ أَنَّ عِقَابَهَا أَعْظَمُ، وَالصَّغِيرَةُ أَقَلُّ، وَلَا يُعْلَمَانِ إلَّا بِتَوْفِيقٍ (زَادَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ، أَوْ نَفْيِ إيمَانٍ كَقَتْلِ) نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ وَزِنًا وَلِوَاطٍ (وَقَذْفٍ بِهِ، وَسِحْرٍ، وَأَكْلِ مَالٍ ظُلْمًا، وَرِبًا وَكِتَابَتِهِ وَشَهَادَةٍ عَلَيْهِ، وَتَوَلٍّ بِزَحْفٍ)؛ أَيْ: الْفِرَارَ عِنْدَ الْجِهَادِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ (وَشُرْبِ كُلِّ مُسْكِرٍ) بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ (وَقَطْعِ طَرِيقٍ وَسَرِقَةِ) مَالٍ مَعْصُومٍ (وَدَعْوَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَشَهَادَةِ زُورٍ، وَيَمِينِ غَمُوسٍ وَتَرْكِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٍ بِحَدَثٍ أَوْ) صَلَاةٍ (لِغَيْرِ قِبْلَةٍ وَ) صَلَاةٍ (بِلَا قِرَاءَةٍ، أَوْ) فِعْلَهَا بَعْدَ (وَقْتٍ، وَقُنُوطٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِسَاءَةِ ظَنٍّ بِهِ)؛ أَيْ: بِاَللَّهِ (وَأَمْنِ مَكْرِهِ، وَقَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَكِبْرٍ وَخُيَلَاءَ وَقِيَادَةٍ، وَدِيَاثَةٍ، وَنِكَاحِ مُحَلِّلٍ، وَهَجْرِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ)؛ أَيْ: تَرْكَ كَلَامِهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ، وَأَمَّا هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُونَهَا (وَتَرْكِ حَجٍّ لِمُسْتَطِيعٍ، وَمَنْعِ زَكَاةٍ، وَحُكْمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَرِشْوَةٍ فِيهِ)؛ أَيْ: فِي الْحُكْمِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (وَفِطْرٍ بِرَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ) فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَتَقَدَّمَ الْخَيَالُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ وَالسِّيَاسَةِ الظَّالِمَةِ وَالْعَوَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَذْوَاقِ وَالْكُشُوفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ (وَسَبِّ صَحَابَةٍ، وَإِصْرَارٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ) لِحَدِيثِ «لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ» رَوَاه التِّرْمِذِيُّ (وَتَرْكِ تَنَزُّهٍ مِنْ بَوْلٍ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (وَنُشُوزِهَا)؛ أَيْ: الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا (وَإِتْيَانِهَا بِدُبُرِهَا وَإِلْحَاقِهَا بِهِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَتْمِ عِلْمٍ عَنْ أَهْلِهِ) عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إظْهَارِهِ، وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ لِلدُّنْيَا، وَالْمُبَاهَاةِ وَالْجَاهِ وَالْعُلُوِّ عَلَى النَّاسِ (وَتَصْوِيرِ ذِي رُوحٍ وَإِتْيَانِ كَاهِنٍ وَعَرَّافٍ، وَتَصْدِيقِهِمَا. وَسُجُودٍ لِغَيْرِ اللَّهِ) تَعَالَى. (وَيَتَّجِهُ) أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ، سَوَاءٌ كَانَ لِجَامِدٍ أَوْ مُتَحَرِّكٍ وَلَوْ بِنِيَّةِ التَّهَكُّمِ- وَيُسْتَتَابُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ (غَيْرَ نَحْوِ صَنَمٍ وَكَوْكَبٍ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّيَّارَةِ أَوْ الثَّوَابِتِ، فَإِنَّ السُّجُودَ لِذَلِكَ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (وَدُعَاءٍ لِبِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالَةٍ، وَغُلُولٍ وَنَوْحٍ وَتَطَيُّرٍ) قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ». فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ دُونَهَا وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ تُكْرَهُ الطِّيَرَةُ وَالتَّشَاؤُمُ (وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ بِآنِيَةِ نَقْدٍ، وَجَوْرِ مُوصٍ فِي وَصِيَّتِهِ) وَمَنْعِهِ الْوَارِثَ مِيرَاثَهُ (وَإِبَاقِ رَقِيقٍ، وَبَيْعِ حُرٍّ، وَاسْتِحْلَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَكَوْنِهِ)؛ أَيْ: الشَّخْصُ (ذَا وَجْهَيْنِ) بِأَنْ يُظْهِرَ وُدًّا وَنَحْوَهُ، وَيُبْطِنُ الْعَدَاوَةَ (وَادِّعَاءِ نَسَبٍ غَيْرِ نَسَبِهِ) خُصُوصًا دَعْوَى الشَّرَفِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَانْتِسَابِهِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدُخُولِهِ فِيمَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ (وَغِشِّ سُلْطَانٍ لِرَعِيَّتِهِ وَإِتْيَانِ بَهِيمَةٍ، وَتَرْكِ جُمُعَةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَنَمِيمَةٍ) وَصَحَّحَهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ وَقَالَ قَدَّمَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمَهُ فِي فُرُوعِهِ (خِلَافًا لِجَمْعٍ) مِنْهُمْ صَاحِبُ الْفُصُولِ وَالْغُنْيَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ (وَغِيبَةٍ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ، (إلَّا فِي مَسَائِلَ) أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِي نُصْحِ مُسْتَشِيرٍ فِي نَحْوِ نِكَاحٍ وَمُعَامَلَةٍ؛ فَتَجِبُ لِلنَّصِيحَةِ وَفِي الِاسْتِعَانَةِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرَاتِ، وَفِي تَعْرِيفِ مَنْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِاسْمِهِ الْقَبِيحِ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْوَرِ وَالْأَعْرَجِ، وَفِي الْفَتْوَى وَالشَّكْوَى كَ ظَلَمَنِي فُلَانٌ (أَخَذَ مِنِّي) بِغَيْرِ حَقٍّ (وَكَذَا فِي مُبْتَدِعٍ؛ فَيُغْتَابُ بِهَا)؛ أَيْ: الْبِدْعَةِ (لِلتَّحْذِيرِ مِنْ عِشْرَتِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ) أَيْ: الْأَصْحَابُ. (وَفِي مُخْبِرٍ عَنْ نَفْسِهِ بِزِنًا وَفَوَاحِشَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْجَابِ؛ فَيُغْتَابُ بِمَا تَجَاهَرَ بِهِ. وَعَلَيْهِ حُمِلَ حَدِيثُ: «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ» وَمِنْهَا غِيبَةُ حَرْبِيٌّ، وَتَارِكُ صَلَاةٍ، وَالْكَذِبُ صَغِيرَةٌ) فَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ إنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ إلَّا الْكَذِبَ (فِي شَهَادَةِ زُورٍ، وَكَذِبٍ عَلَى نَبِيِّ) مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ (أَوْ كِذْبٍ عِنْدَ ظَالِمٍ، وَ) كِذْبٍ فِي (رَمْيِ فِتَنٍ) أَوْ عَلَى أَحَدِ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ حَاكِمٍ ظَالِمٍ (فَكَبِيرَةٌ. قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: وَيُعْرَفُ الْكَذَّابُ بِخُلْفِ الْمَوَاعِيدِ) نَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ (وَيَجِبُ كِذْبٌ لِتَخْلِيصِ مَعْصُومٍ مِنْ قَتْلٍ) جَزَمَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ. (قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ وَاجِبًا، وَيُبَاحُ) الْكَذِبُ (لِإِصْلَاحٍ) بَيْنَ النَّاسِ (وَلِحَرْبٍ وَلِزَوْجَةٍ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ (وَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهِ)؛ أَيْ: الْكَذِبِ وَمَنْ جَاءَهُ طَعَامٌ، فَقَالَ: لَا آكُلُهُ ثُمَّ أَكَلَهُ فَكِذْبٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، نَقَلَهُ الْمَرْوَزِيِّ: وَمَنْ كَتَبَ لِغَيْرِهِ كِتَابًا فَأَمْلَى عَلَيْهِ كَذِبًا؛ لَمْ يَكْتُبْهُ. نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَظَاهِرُ الْكَافِي الْعَدْلُ مَنْ رَجَحَ خَيْرُهُ، وَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الصَّغَائِرَ تَقَعُ مُكَفِّرَةٍ أَوَّلًا فَأَوَّلًا؛ فَلَا تَجْتَمِعُ (وَالصَّغَائِرُ كَتَجَسُّسٍ) عَلَى النَّاسِ وَاسْتِكْشَافِ أَحْوَالِهِمْ (وَسَبٍّ بِغَيْرِ قَذْفٍ وَنَظَرٍ مُحَرَّمٍ وَاسْتِمَاعِ كَلَامِ أَجْنَبِيَّةٍ بِلَا حَاجَةٍ) أَوْ اسْتِمَاعِ (آلَةِ لَهْوٍ) وَلَوْ لِحَاجَةٍ (تَحْرُمُ) آلَاتِ اللَّهْوِ كُلِّهَا (اتِّخَاذًا وَاسْتِعْمَالًا وَصِنَاعَةً) مُطْرِبَةً كَانَتْ أَوَّلًا (فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ بِفِعْلٍ مِمَّا مَرَّ كَزَانٍ وَدَيُّوثٍ أَوْ بِاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ)؛ أَيْ: رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ (أَوْ فِي الرَّفْضِ)؛ أَيْ: تَكْفِيرَ الصَّحَابَةِ وَتَفْسِيقَهُمْ بِتَقْدِيمِ غَيْرِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْخِلَافَةِ، أَوْ فِي التَّجَهُّمِ بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ؛ أَيْ: اعْتِقَادِ مَذْهَبِ. جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ (وَنَحْوَهُ) لِمُقَلِّدٍ فِي التَّجْسِيمِ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ الْخَوَارِجُ، وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوَهُمْ (قَالَ الْمَجْدُ) الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَفَّرْنَا فِيهَا الدَّاعِيَةَ؛ فَإِنَّا نُفَسِّقُ الْمُقَلِّدَ فِيهَا، كَمَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَوْ إنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، أَوْ أَنَّ أَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ (أَوْ يَسُبَّ الصَّحَابَةَ تَدَيُّنًا) فَمَنْ كَانَ عَالِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ، يَدْعُوَا إلَيْهِ، وَيُنَاظَرُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ نَصَّ أَحْمَدُ صَرِيحًا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ انْتَهَى.
(وَيَكْفُرُ مُجْتَهِدُهُمْ)؛ أَيْ: مُجْتَهِدُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ خَالَفَ عَلَيْهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (الدَّاعِيَةُ) قَالَ فِي الْفُصُولِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي جَهْمِيَّةٍ وَوَاقِفِيَّةٍ وَحَرُورِيَّةٍ وَقَدَرِيَّةٍ وَرَافِضِيَّةٍ: إنْ نَاظَرَ وَدَعَا؛ كَفَرَ، وَإِلَّا لَمْ يَفْسُقْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ يُسْمَعُ حَدِيثُهُ، وَيُصَلِّي خَلْفَهُ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ (عَامَّتَهُمْ)؛ أَيْ: الْمُبْتَدِعَةِ (فَسَقَةٌ كَعَامَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُفَّارٌ مَعَ جَهْلِهِمْ) وَالصَّحِيحُ لَا كُفْرَ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ أَجَازَ الرِّوَايَةَ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ (وَذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّ قَدَرِيَّةَ أَهْلِ الْأَثَرِ كَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَالْأَصَمِّ مُبْتَدِعَةٌ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ (لَا يَفْسُقُ أَحَدٌ) وَقَالَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمُقَلِّدِ كَالْفُرُوع. (وَلَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ قَاذِفٍ، حُدَّ أَوْ لَا)؛ أَيْ: أَوْ لَمْ يُحَدَّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (حَتَّى يَتُوبَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ أَبُو بَكْرَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَكُرِهَ زِيَادَةُ فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ، وَقَالَ لَهُمْ تُوبُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُكُمْ، فَتَابَ رَجُلَانِ؛ فَقَبِلَ عُمَرُ شَهَادَتَهُمَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَكَانَ قَدْ عَادَ مِثْلُ النَّصْلِ مِنْ الْعِبَادَةِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُحَقِّقُ الْقَاذِفُ قَذْفَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ مَقْذُوفٍ أَوْ لِعَانٍ إنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا، فَإِنْ حَقَّقَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَذْفِهِ فِسْقٌ وَلَا حَدٌّ، وَلَا رَدُّ شَهَادَةٍ (وَتَوْبَتُهُ)؛ أَيْ: الْقَاذِفَ (تَكْذِيبُهُ نَفْسَهُ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا، فَيَقُولُ: كَذَبْت فِيمَا قُلْت) لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا فِي قَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قَالَ تَوْبَتُهُ إكْذَابُ نَفْسِهِ وَلِتَلَوُّثِ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ؛ فَإِكْذَابُهُ نَفْسَهُ يُزِيلُ ذَلِكَ التَّلْوِيثَ. (وَالْقَاذِفُ بِشَتْمٍ تَكَرَّرَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَتُرَدُّ فُتْيَاهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَالشَّاهِدُ بِالزِّنَا إذَا لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ دُونَ شَهَادَتِهِ، وَتَوْبَةُ غَيْرِهِ)؛ أَيْ: الْقَاذِفِ نَدَمٌ بِقَلْبِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ (وَإِقْلَاعٌ) بِأَنْ يَتْرُكَ فِعْلَ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ إصْلَاحُ الْعَمَلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَمَعَ الْمَغْفِرَةِ يَجِبُ أَنْ تَتَرَتَّبَ الْأَحْكَامُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْهَا. وَهُوَ الْفِسْقُ؛ لِأَنَّهُ فِسْقٌ مَعَ زَوَالِ الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ فِسْقُ الْفَاسِقِ (بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَلَا بُدَّ) لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ (مِنْ فِعْلِهِ) أَيْ: الْوَاجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ (وَيُسَارِعُ) بِفِعْلِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فَوْرًا، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ بِتَرْكِ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ كَقِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهِ بِبَذْلِهَا لِلْمُسْتَحِقِّ (وَيُعْتَبَرُ رَدُّ مَظْلِمَةٍ) فِسْقٌ بِتَرْكِ رَدِّهَا كَمَغْصُوبٍ وَنَحْوَهُ فَإِنْ عَجَزَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ (أَوْ يَسْتَحِلُّهُ)؛ أَيْ: رَبُّ الْمَظْلِمَةِ بِأَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُحَلِّلَهُ (وَيُمْهَلُ تَائِبٌ مُعْسِرٌ)؛ أَيْ: يُمْهِلُهُ رَبُّ الْمَظْلِمَةِ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُوسِرًا فَإِنْ وَجَدَ الْمَظْلُومُ وَقْتَ يَسَارِ الظَّالِمِ رُدَّتْ مَظْلِمَتُهُ إلَيْهِ، وَإِلَّا يُوجَدُ (فَتُرَدُّ لِبَيْتِ مَالٍ حَيْثُ لَا وَارِثَ وَيَعْتَرِفُ مُبْتَدِعٌ بِبِدْعَةٍ، وَيَعْتَقِدُ الْحَقَّ) وَيُصَمِّمُ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ. (وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مُعَلَّقَةً) بِشَرْطٍ فِي الْحَالِ وَلَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ النَّدَمَ وَالْعَزْمَ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَلَا يَتَأَتَّى تَعْلِيقُهُ، وَكَذَا الْإِقْلَاعُ (وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا)؛ أَيْ: التَّوْبَةِ (مِنْ نَحْوِ قَذْفٍ وَغِيبَةٍ إعْلَامُهُ)؛ أَيْ: الْمَقْذُوفَ وَالْمُغْتَابَ (وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ) قَالَ أَحْمَدُ: إذَا قَذَفَ ثُمَّ تَابَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ قَدْ قَذَفْتُك هَذَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَلْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى (وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيُّ) (يَحْرُمُ إعْلَامُهُ) لِأَنَّ فِيهِ إيذَاءً صَرِيحًا، وَإِذَا اسْتَحَلَّهُ يَأْتِي بِلَفْظٍ عَامٍّ مُبْهَمٍ؛ لِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمَجْهُولِ. (وَمَنْ تَتَبَّعَ الرُّخْصَ بِلَا حُكْمِ حَاكِمٍ؛ فَسَقَ نَصًّا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعًا) وَذَكَرَ الْقَاضِي غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ وَلَا مُقَلِّدٍ، وَلُزُومُ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ وَامْتِنَاعُ الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ الْأَشْهَرُ عَدَمُهُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ عَمِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ يَعْنِي الْغِنَاءَ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ، لَكَانَ فَاسِقًا لِأَخْذِهِ بِالرُّخْصِ، وَتَتَبُّعِهِ لَهَا (قَالَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَلَا نُرِيدُ بِالرُّخْصِ مَا فِيهِ سُهُولَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، بَلْ مَا ضَعُفَ مُدْرِكُهُ بِحَيْثُ يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ مَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ خَالَفَ الْقَوَاعِدَ انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ) يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ: وَمَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ إمَامٍ بِعَيْنِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَإِنْ قَالَ يَنْبَغِي كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا. وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِإِمَامٍ، فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَأَنْقَى؛ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلَمْ يُقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ انْتَهَى، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْفُرُوعِ، وَقَبِلُوا شَهَادَةَ مُخَالِفٍ لَهُمْ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ سَائِغٌ فَلَا يَفْسُقُ بِهِ الْمُخَالِفُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. (وَمَنْ أَتَى فَرْعًا فِقْهِيًّا مُخْتَلَفًا فِيهِ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ تَزَوَّجَ بِنْتَه مِنْ زَنَا أَوْ شَرِبَ مِنْ نَبِيذٍ مَا لَا يُسْكِرُ أَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ قَادِرًا)؛ أَيْ: مُسْتَطِيعًا (إنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ)؛ أَيْ: مَا فَعَلَهُ مِمَّا ذُكِرَ (رُدَّتْ) شَهَادَتُهُ نَصًّا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ عَمْدًا، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمه، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مَعَ الْمُدَاوَمَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَبَقَ (وَإِنْ تَأَوَّلَ)؛ أَيْ: فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا عَلَى حِلِّهِ بِاجْتِهَادِهِ (أَوْ قَلَّدَ) الْقَائِلُ بِحِلِّهِ؛ فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ سَائِغٌ فَلَا يَفْسُقُ بِهِ مَنْ فَعَلَهُ، أَوْ قَلَّدَ فِيهِ. الشَّيْءُ (الثَّانِي) مِمَّا يُعْتَبَرُ لِلْعَدَالَةِ (اسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ) بِوَزْنِ سُهُولَةٍ؛ أَيْ: الْإِنْسَانِيَّةِ (بِفِعْلِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ) عَادَةً كَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ وَبَذْلِ الْجَاهِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَنَحْوَهُ (وَتَرْكُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ)؛ أَيْ: يَعِيبُهُ عَادَةً مِنْ الْأُمُورِ الدَّنِيئَةِ الْمُزْرِيَةِ بِهِ (فَلَا شَهَادَةَ مَقْبُولَةً لِمُصَافَعٍ)؛ أَيْ: يَصْفَعُ غَيْرَهُ، وَيَصْفَعُهُ غَيْرُهُ، لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا (وَمُتَمَسْخِرٍ) يُقَالُ سَخِرَ مِنْهُ وَبِهِ كَفَرِحَ، وَسَخِرَ هَذَى كَاسْتَخَرَ (وَرَقَّاصٍ) كَثِيرِ الرَّقْصِ (وَمُشَعْبِذٍ) وَالشَّعْبَذَةُ وَالشَّعْوَذَةُ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ (وَمُغَنٍّ، وَكُرِهَ الْغِنَاءُ بِلَا آلَةِ غِنَاءٍ) مِنْ عُودٍ وَطُنْبُورٍ وَنَحْوِهِمَا (وَاخْتَارَا الْأَكْثَرُ)؛ أَيْ: أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَحْرُمُ الْغِنَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ آلَةِ لَهْوٍ أَوْ لَا (بَلْ ادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى كُفْرِ مُسْتَحِلِّهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ) إذْ الْمَذْهَبُ كَرَاهَتُهُ بِلَا آلَةِ لَهْوٍ، وَمَعَهَا حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ الْآلَةُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَالْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ مَعْنًى وَاحِدٌ؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّوْحَ بِمَعْنَى النِّيَاحَةِ، لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ بَلْ كَبِيرَةٌ؛ فَاسْتِمَاعُهُ حَرَامٌ (وَهُوَ)؛ أَيْ: الْغِنَاءُ رَفْعُ صَوْتٍ بِشِعْرٍ (أَوْ مَا قَارَبَهُ مِنْ الرَّجَزِ عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ، وَكُرِهَ اسْتِمَاعُهُ)؛ أَيْ: الْغِنَاءَ إلَّا مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِهِ، وَيُبَاحُ الْحِدَاءُ الَّذِي تُسَاقُ بِهِ الْإِبِلُ، وَنَشْدُ الْعَرَبِ، وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْإِنْشَادِ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْغِنَاءِ. وَلَا شَهَادَةَ (لِطُفَيْلِيٍّ) يَتْبَعُ الضِّيفَانَ (وَمُتَزَيٍّ بِزِيٍّ لِيُسْخَرَ مِنْهُ)؛ أَيْ: يُهْزَأَ بِهِ. (وَلَا شَهَادَةَ لِشَاعِرٍ يُفَرِّطُ)؛ أَيْ: يُكْثِرُ (فِي مَدْحٍ بِإِعْطَاءٍ، وَيُفَرِّطُ فِي ذَمٍّ بِمَنْعٍ) مِنْ إعْطَاءٍ (أَوْ يُشَبِّبُ بِمَدْحٍ خَمْرًا أَوْ بِمُرْدٍ أَوْ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ، وَيَفْسُقُ بِذَلِكَ، وَلَا تَحْرُمُ رِوَايَتُهُ) لِحَدِيثِ: «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَكَانَ يُصْنَعُ لِحَسَّانَ مِنْبَرًا يَقُومُ عَلَيْهِ فَيَهْجُو مَنْ هَجَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنْشَدَهُ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَتَهُ بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ، فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} وَنَحْوَهُ مِمَّا وَرَدَ فِي الشِّعْرِ فَالْمُرَادُ مَنْ أَسْرَفَ وَكَذَبَ.
(وَ) لَا شَهَادَةَ (لِلَاعِبٍ بِشِطْرَنْجٍ غَيْرِ مُقَلِّدٍ) مَنْ يَرَى إبَاحَتَهُ حَالَ لَعِبِهِ؛ لِتَحْرِيمِ لَعِبِهِ كَمَا يَحْرُمُ (مَعَ عِوَضٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ إجْمَاعًا، أَوْ لَاعِبٍ بِنَرْدٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ عِظَامٍ، كُلُّ عَظْمٍ بِثَلَاثَةِ قُرُونٍ مَنْقُوشٌ بِجَانِبٍ مِنْهُ عَدَدٌ، وَبِالثَّانِي عَدَدَانِ، وَبِالثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَعْدَادٍ، وَنَرْدُ شِيرٍ اسْمُ الْمَلِكِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ هَذَا النَّرْدُ وَيَحْرُمَانِ)؛ أَيْ؛ الشِّطْرَنْجُ وَالنَّرْدُ- أَيْ اللَّعِبُ بِهِمَا- لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد فِي النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ بِمَعْنَاهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُسْتَوْفًى فِي بَابِ الْمُسَابَقَةِ (أَوْ لَاعِبٍ بِكُلِّ مَا فِيهِ دَنَاءَةٌ حَتَّى بِأُرْجُوحَةٍ أَوْ رَفْعِ ثَقِيلٍ، وَتَحْرُمُ مُخَاطَرَتُهُ بِنَفْسِهِ فِيهِ)؛ أَيْ: رَفْعُ الثَّقِيلِ، وَتَحْرُمُ مُخَاطَرَتُهُ بِنَفْسِهِ (فِي ثِقَافٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}. (أَوْ)؛ أَيْ: وَلَا شَهَادَةَ لِلَاعِبٍ (بِحَمَامِ طَيَّارَةٍ وَلَا لِمُسْتَرْعِيهَا)؛ أَيْ: الْحَمَامِ (مِنْ الْمَزَارِعِ أَوْ لِمَنْ يَصِيدُ بِهَا حَمَامَ غَيْرِهِ، وَيُبَاحُ اقْتِنَاؤُهَا لِلْأُنْسِ بِصَوْتِهَا وَلِاسْتِفْرَاخِهَا وَلِحَمْلِ كُتُبٍ، وَيُكْرَهُ حَبْسُ طَيْرٍ لِنَغْمَتِهِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ تَعْذِيبٍ لَهُ. وَلَا شَهَادَةَ لِمَنْ يَأْكُلُ بِالسُّوقِ كَثِيرًا لَا يَسِيرًا كَلُقْمَةٍ وَتُفَّاحَةٍ. (وَلَا) شَهَادَةَ (لِمَنْ يَمُدُّ رِجْلَيْهِ بِجَمْعِ النَّاسِ، أَوْ يَكْشِفُ مِنْ بَدَنِهِ مَا الْعَادَةُ تَغْطِيَتُهُ كَصَدْرِهِ أَوْ ظَهْرِهِ، وَيُحْدِثُ بِمُبَاضَعَةِ أَهْلِهِ)؛ أَيْ: زَوْجَتِهِ أَوْ بِمُبَاضَعَةِ أَمَتِهِ، أَوْ يُخَاطِبُهَا (بِخِطَابٍ) فَاحِشٍ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِلَا مِئْزَرٍ، أَوْ يَنَامُ بَيْنَ جَالِسِينَ، أَوْ يَخْرُجُ عَنْ مُسْتَوَى الْجُلُوسِ بِلَا عُذْرٍ، أَوْ يَحْكِي الْمُضْحِكَاتِ، (أَوْ يَتَعَاطَى مَا فِيهِ سُخْفٌ وَدَنَاءَةٌ) لِأَنَّ مَنْ رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَخَفَّهُ؛ فَلَيْسَ لَهُ مُرُوءَةٌ، وَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلِحَدِيثِ مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ مَرْفُوعًا «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت». وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ تَمْنَعُ الْكَذِبَ، وَتَزْجُرُ عَنْهُ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ ذُو الْمُرُوءَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَدَيِّنًا.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا مُتَخَفِّيًا لَمْ يُمْنَعْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مُرُوءَتَهُ لَا تَسْقُطُ بِهِ، وَكَذَا إنْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ شَيْئًا قَلِيلًا انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا اتَّخَذَهُ أَرْبَابُ الدُّنْيَا مِنْ الْعَادَاتِ وَالنَّزَاهَةِ الَّتِي لَمْ يُقَبِّحْهَا السَّلَفُ وَلَا اجْتَنَبَهَا الصَّحَابَةُ كَتَعَذُّرِهِمْ مِنْ حَمْلِ الْحَوَائِجِ وَالْأَقْوَاتِ لِلْعِيَالِ وَلُبْسِ الصُّوفِ وَرُكُوبِ الْحِمَارِ وَحَمْلِ الْمَاءِ عَلَى الظَّهْرِ وَالرِّزْمَةِ إلَى السُّوقِ، فَلَا يُعْتَبَرُ نَقْصًا فِي الْمُرُوءَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ بِلَا تَلْحِينٍ لَا بَأْسَ بِهَا، وَإِنْ حَسُنَ صَوْتُهُ بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِحَدِيثِ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ». وَتَقَدَّمَتْ أَحْكَامُ اللَّعِبِ (وَتَحْرُمُ مُحَاكَاةُ النَّاسِ لِلضَّحِكِ وَيُعَزَّرُ هُوَ وَمَنْ يَأْمُرْهُ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْغِيبَةِ.